الدنمارك.. عنصرية تبرر باسم “الدعابة”
الدنمارك.. عنصرية تبرر باسم "الدعابة"
حكمت محكمة دنماركية في جزيرة بورنهولم (في البلطيق)، الثلاثاء 2 ديسمبر/كانون الأول، بعد يومين من المداولات، بالسجن 14 عاماً على شقيقين بتهمة قتل الشاب ذي البشرة الداكنة، فيليب يوهانسون (من أم تنزانية وأب دنماركي). على أثر الحكم تظاهر أعضاء حركة “حياة السود مهمة”، محتجّين على استبعاد الدوافع العنصرية أو الكراهية في المداولات. في المقابل، عبّر متظاهرون عن غضبهم من تصرفات الحركة “لأنها تشوّه سمعة الجزيرة والدنمارك”.
ووفقاً للطب الشرعي، أظهرت عملية قتل الشاب يوهانسون “وحشية غير مسبوقة في تاريخ الطب الشرعي” في الدنمارك (كما أشار تقرير العربي الجديد عن الواقعة)، إذ تمّ قتله خلال حفلة تعذيب وحرق رهيبة، وكُشف عن جثو القاتل بركبته على عنق الضحية، في إعادة تمثيل لواقعة قتل الأميركي الأسود، جورج فلويد، على يد الشرطة في مايو/أيار الماضي.
الصحافة المحلية، مثل “إنفومارسيون” و”بوليتيكن” و”بيرلنغكسا” والتلفزيون الدنماركي، أبدت اهتماماً كبيراً بالجريمة. لكن بقي البحث عن الدوافع سؤالاً بلا جواب حتى اليوم. حتى أنّ تطرّف أحد الشقيقين القاتلين (26 سنة) وعلاقته بحزب “سترام كورس” العنصري، بزعامة السياسي المثير للجدل راسموس بالودان صاحب التصرّفات الاستفزازية في حرق نسخ للقرآن، والذي طُرد من فرنسا قبل أسابيع، كما أوقفته سلطات بلجيكا ورحلته، لم يحسم سؤال العنصرية في البلد.
فرغم أنّ القاتل استعرض في مظاهرات مناوئة للمهاجرين الصليب النازي وعبارة “القوة البيضاء”، بقيت تلك الحيثيات مغيّبة عن المحلّفين، ما أثار غضب مناهضي الفاشية وحركة “حياة السود مهمة” خارج المحكمة، متّهمين البلد بالتغطية على العنصرية البنيوية، ونفي وجود مشكلة عنصرية في الدنمارك.
وأشار المركز الدنماركي لحقوق الإنسان ومنظمات حقوقية أخرى، نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إلى أنّ نحو 45 في المائة من ضحايا العنصرية في الدنمارك اختاروا عدم الشكوى “لشعورهم أنّ الشرطة لا تأخذ شكواهم على محمل الجد”.
ثقافة النعوت العنصرية.. “دعابة سوداء”
[sc name=”ads4″ ]مشكلة الدنمارك، في رفضها الاعتراف بالعنصرية، تعزّزها ثقافة تاريخية في اعتبار النعوت التي تتهكّم على البشر بحسب لونهم أو دينهم مجرّد “دعابة سوداء”. ولا يزال مصطلح “نيغر” (أو زنجي) يُستخدم من دون تردّد، حتى اليوم، في البلاد. ويبقى إرث الخطاب العنصري لمؤسّس الحزب الشعبوي “التقدمي” و”الشعب الدنماركي” لاحقاً، موينز غليستروب، الذي رحل قبل سنوات، عن “المحمديين” و”بيركا”، يلاحق أحفاد اليوغسلافيين والمغاربة والأتراك، “العمّال الضيوف”، حتى 2020. إذ تبنّى جيل الشعبوية الجديد في البرلمان وصحافة اليمين المتشدّد هذا الخطاب. بل اقترح أحد قادة هذا التيار، وهو عضو في البرلمان، قبل سنوات، برمي الأفارقة من الطائرات فوق الصومال “ولو بدون مظلات”.
صحيح أنه تمّ استحداث قانون “مكافحة العنصرية” في قانون العقوبات في الدنمارك، لكن يبدو أنّ استخدامه في المحاكم صعب، كما يشير “المركز الدنماركي لحقوق الإنسان”. وتتفشّى نعوت العنصرية اللفظية، حتى بين أفراد الشرطة، بحسب شهادة شرطيين من أصول عربية لـ”العربي الجديد”.
“العرب متخلّفون.. لكن لست أنت المقصود”
لعلّ أمثلة انتشار العنصرية الممنهجة هي في الأدلّة التي توفّرها “حياة السود مهمة” ومنظمات حقوقية أخرى، كما في شهادة أعضاء لجنة “مكافحة التمييز” لـ”العربي الجديد”، التي أدلى بها بعض الشرطيين والموظفين من أصول عربية.
فثقافة “الدعابة السوداء” تعرّض موظّفاً من الجيل الثاني، أو الثالث مثلاً، لـ”نكات” مؤذية من رفاق العمل، أو حتى تنتشر هذه الدعابات في الاحتفالات العائلية، حيث يوجد عربي متزوّج من دنماركية.
ويذكر أحد المواطنين من أصول عربية لـ”العربي الجديد”، وهو أقام 35 سنة في مناطق شمال غرب البلد: “توقفت منذ عقدين عن المشاركة في المناسبات الاجتماعية بسبب التعليقات العنصرية بحضوري، وكانوا عندما يلتفتون إليّ يقولون: “(لست أنت المقصود..)”. ويضيف “استمرّ هذا الوضع لعشرين سنة، حتى بعد أن أصبحت والداً، وكانت زوجتي تشعر بحرج شديد بعد هذه التعليقات، وتعيد الأمر إلى الخمور”.
تتكرّر جملة “لست أنت المقصود”، لكنها في نظر الطبيب النفسي، توربن بورغدوف، تنمّ عن مكنونات التربية التي تقوم على ثقافة موغلة في عرقيّتها وجهلها وانغلاقها، بحسب ما يقول لـ”العربي الجديد”.
ومن بين الأفعال المؤذية نفسياً تجاه الأطفال المهاجرين، أن يُتهموا مثلاً بـ”الهمجية” و”قلّة الذكاء” مقارنةً مع أقرانهم البيض. وهذا انعكاس لما يدور في منازل الدنماركيين، والتعميم الذي يطاول الجيلين الثاني والثالث، باعتبارهم “حثالة وسارقين” و”مسلمين متخلّفين، لا يجيدون تربية أطفالهم”، كما ينقل شرطي عربي سابق عن نقاشات زملائه، قبل أن يستقيل “بعد أن طفح به الكيل”.
مشكلة العرقية والعنصرية لا تطاول فقط المهاجرين المسلمين، فتجد آنا سورسن نفسها عرضة لتعليقات حول لون بشرتها الداكنة، وهي سريلانكية، منذ أن أُحضرت بالتبني إلى البلاد، في عمر السنتين، مع صديقها من أصل كيني بيتر كريستيانسن. إذ صرخ الكثيرون في وجههما عبارة: “ارحلا إلى بلادكما”.
تمايز “فرخ البط القبيح”.. وصليب النازية مجرد طيش
تحاول الأسر التي تبنّت أطفالاً من خارج البلاد، أو التي صار لديها أطفال من زيجات مختلطة، كسر تابو العنصرية في الدنمارك، باستحضار رائعة الأديب هانس كريستيان أندرسن “فرخ البط القبيح”، لتعزيز ثقة أطفالهم بأنفسهم، حيث استمع “العربي الجديد” لشهادات مؤلمة لصبية ومراهقين ومراهقات عن العنصرية، التي لا تؤخذ على محمل الجدّ في رياض الأطفال أو المدارس العامة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، بعد جريمة بورنهولم، لم يرَ البعض في استخدام شعار النازية، وفي وسطه عبارة القوة البيضاء، دليلاً على العنصرية، “بل مجرّد طيش شبابي.. واستفزازي”، كما رفض الادعاء العام والشرطة النظر في دوافع عنصرية للجريمة أو اعتبارها جريمة كراهية.
معارضو الفاشية في “أنتيفا” انتقدوا بشدّة أجواء تنافس الساسة على كسب الجمهور المؤيد للحزب العنصري بميول نازية “سترام كورس”، وحزبي اليمين القومي المتعصب، “الشعب الدنماركي” و”البرجوازية الجديدة”. بيد أنّ ذلك لم يوقف اندفاع معلّقين على وسائل التواصل الاجتماعي و”تويتر”، كما على مواقع الصحف، بما فيها “إنفورماسيون” و”بوليتيكن”، إلى مهاجمة حركة معارضة الفاشية “أنتيفا” و”حركة حياة السود مهمة”، متهّمين إياهما، بأنهما “تزعزعان صورة الدنمارك بإلقاء هذه الاتهامات”.
وذهب البعض إلى تبرير وجود وشمي النازية والعنصرية، وتعبير أحد القاتلين الشقيقين عن العداء للمهاجرين، في أكثر من مناسبة، إلى أنّه “ليس دليلاً على عنصريته” بل “مجرد طيش شبابي”.
تلك المبرّرات دفعت بعض الشباب العرب والدنماركيين المناهضين للفاشية إلى طرح سؤال في حديثهم مع “العربي الجديد”: “لِم يعُتقل إذاً أيّ شاب مسلم أو عربي يشارك منشوراً أو يهاجم الاحتلال الإسرائيلي باعتباره مؤشراً على الراديكالية؟”.
السؤال أعلاه، مع غيره من أسئلة ازدواجية المعايير، كرفض مراجعة الدنمارك لتاريخها الأسود في تجارة الرقيق، تزامناً مع التحرّكات بعيد مقتل جورج فلويد، جعل بعض الصحافة الأوروبية والأميركية تتحدّث عن أن “ثمة شيئاً فاسداً في الدنمارك”.
في الدول الاسكندينافية، يبقى في كوبنهاغن سؤال العنصرية والتمييز وانتقاد لفظة “غيتوهات”، المستعملة من الساسة وفي الصحافة، وهي تُطلق على التجمّعات السكنية التي يقطنها المنحدرون من أصول غير أوروبية، من التابوهات التي لا تجب مناقشتها. ويبدو أنّ أيّ تحريك في المياه الآسنة سينشر روائح كثيرة في أجواء من الإصرار على فرز الناس وفق المعتقد والأصل الإثني.
وفي خضم كلّ ذلك، لا يتمّ الحديث عن التضخيم الذي يحدث حول موضوع “أسلمة الدنمارك”، الذي يلعب عليه اليمين المتطرف ومنافسوه التقليديون. فـ”الإحصاء الدنماركي”، كجهة رسمية، ينسف بأرقامه كذبة الأسلمة التي يشيعها الشعبويون والمتطرّفون، لتبرير المزيد من التشدّد. إذ يفيد المركز، وفق أرقام الشهر الماضي، أنّ عدد المسلمين في الدنمارك لا يتجاوز 250 ألفاً من أصل 5.5 ملايين مواطن.